فى أى دولة فى العالم، لا يمكن أن يؤدى سقوط نظام إلى سقوط تاريخ.. فالأشخاص زائلون وتبقى الحقائق.. ولا يمكن حفظ الحقائق فى خزائن أكثر أمنا من الوثائق.. ووثائق الأجهزة الأمنية بالذات.
وسط كل الفوضى التى أعقبت سقوط نظام مبارك، لم ينتبه كثيرون إلى سقوط آخر لا يقل أهمية.. هو سقوط جهاز أمن الدولة.. عمود مبارك الفقرى.. ويده الباطشة.. وذاكرته الحديدية التى كانت تسجل على الكل تفاصيلهم.. وتحفظ ملفاتهم.. وخط سيرهم.. ونواياهم.. وعاداتهم.. وأفكارهم.
سقط جهاز أمن الدولة وتناثرت وثائقه على الأرصفة فى فوضى لا تقل حدة عن الفوضى العامة التى تعيشها مصر الآن.. كأن ما حدث فى وثائق أمن الدولة صورة مصغرة لما يجرى فى مصر كلها: جزء منها مفروم أو محروق.. وجزء آخر يباع علنا فى الشوارع.. وجزء ثالث يظهر على وسائل الإعلام.. بينما يلهو الصبية والمراهقون بجزء رابع منها.. ويظل الجزء الأخير والأهم مختفيا.. إما غائب عن الأنظار.. أو محفوظ فى خزائن أكثر صلابة.. وإحكاما وصمتا.. من الخزائن المنهارة التى سبقتها.
جزء مهم من تاريخ مصر فى هذه الوثائق.. الجزء الذى يكشف عن التفكير السرى لرئيس وجد فى هتك ستر الناس سترا له.. وفى اختراق أمنهم وأمانهم تأمينا له.. لكن.. متى يتم الكشف عن وثائق أمن الدولة.. ولمن.. وما هو التوقيت الذى يحكم كشف مثل هذه الأمور؟.. ومن الذى يحدد ما يكشف.. وما لا يكشف.. وما يعرفه الناس عن ماضيهم قبل أن يفوت الأوان لإصلاح حاضرهم.. وقبل أن تتحول معلومات الوثائق إلى حبر على ورق، لا يفيد فى تغيير.. ولا يصلح حالا؟..
إن قضية كتابة تاريخ الأجهزة الأمنية، من أمن ومخابرات.. قضية شائكة.. تثار فى العالم كله لتجد من يصر على كشفها فى أقرب وقت.. ومن يصر على حفظها ولو للأبد فى طى الكتمان.. وبين هذا وذاك تظهر القوانين التى تحكم كتابة تاريخ المخابرات لتفكر بمنطق الشفافية مرة.. وبمنطق دواعى الأمن.. مرات ومرات.
ربما لهذا لا تجد المخابرات الفرنسية مثلا ترحب بالكشف عن ملفاتها.. حتى إن العالم كله، اعتبر أن مجرد نشر ضباط مخابرات «لبعض» عملياتهم التى تمت فى الخمسينيات من القرن الماضى حدث يستحق الاحتفال!.. فى حين ترى المخابرات البريطانية مثلا، أن الكشف عن عملياتها ونشر ملفاتها فى كتب تجارية، هو بيزنس لا يمكن أن يجد منافسا له.. فتجارة الأسرار لا يمكن أن تبور.. وفضول الناس لرؤية ما وراء الأبواب المغلقة لا يقتصر على الفضائح التى برعت الصحف الإنجليزية فى المتاجرة بها.. وإنما يمتد للأسرار «الكبيرة» التى لا يمكن أن يجدها إلا لدى كاتبه المفضل، صاحب الكتب التى تحقق أعلى المبيعات: المخابرات البريطانية!.
بيزنس المخابرات البريطانية يحقق لها الدعاية التى تريدها.. فهى تتحكم فيما ينشر.. وما لا ينشر.. بالتالى تنقل للناس الصورة التى تريد أن يرونها عنا.. لكن المخابرات الألمانية، فى المقابل، لم تكن تبحث عن الشهرة.. وإنما عن الاستفادة.. والإنجاز.
بالمنطق الألمانى الذى يرى أن الاستفادة الحقيقية من خبراته تكون بتصديرها إلى الخارج، تسرب إلى الصحف الألمانية، والمواقع المهتمة بأجهزة الأمن والمخابرات، خبر يقول أن المخابرات الألمانية، bnd، عرضت فى يناير الماضى على المسئولين فى مصر، أن تساعدهم فى تنظيم وترتيب ملفات جهاز أمن الدولة المنهار.. أن تساعدهم فى ترتيب الوثائق، وتصنيفها، وتأريخها.. وتحديد درجات السرية فيها.. بحيث تحفظ جزءًا مهما من تاريخ البلد بما يراه المسئولون فيها مناسبا.
وكانت المخابرات الألمانية تملك تاريخا طويلا من ترتيب أرشيف الأجهزة الأمنية، منذ أن تولت ترتيب أرشيف وملفات جهاز البوليس السرى فى ألمانيا الشرقية stasi، بعد انتهاء فترة عاصفة من التاريخ الألمانى.. سقطت فيها وجوه كثيرة دون أن تسقط فيها التفاصيل.. ولا التاريخ.
لم يعرف أحد ماذا كان مصير العرض الألمانى.. وهل وجد أصلا من يتحمس له؟.. هل بدأ الخبراء الألمان بالفعل ينظمون ما تبقى من أرشيف أمن مبارك السابق؟.. أم أن العرض تم رفضه من الأساس، باعتبار أن أمن مصر لا يمكن أن ينكشف على أعين أجنبية، حتى وإن تظاهرت بالرعاية.. وتعهدت بالحماية والأمان؟
هو سؤال يضاف إلى شبكة الغموض التى تحاط بالأجهزة الأمنية فى مصر.. ومثل أسرارها.. يصعب أن نتوقع الرد عليه قريبا.. لكننا نعرف على الأقل، مجموعة من الحقائق التى تسربت إلى الصحف الألمانية، وأظهرت عمق التعاون بين أجهزة الأمن المصرية والألمانية، خاصة فى السنوات العشر الأخيرة من نظام حكم مبارك.
منها مثلا، أن التعاون بين البوليس الألمانى وأمن الدولة المصرى فى عهد مبارك، سمح لمكتب التحقيقات الجنائية الفيدرالى الألمانى بأن يكون عنده ضابط واحد متمركز فى القاهرة، بينما تحتفظ الشرطة الفيدرالية الألمانية بضابطى اتصالات متمركزين بشكل دائم فى القاهرة.
ومنها أيضا، أنه فى الفترة بين عامى 1999 و2009، تلقت مصر معدات عسكرية وتكنولوجية ألمانية، بقيمة 270 مليون يورو، وأن هناك برنامجًا للتعاون المشترك بين القوات المسلحة المصرية والألمانية، يتم فيه تدريب 11 ضابطا مصريا فى ألمانيا.
ومنها ما نعرفه من التاريخ.. أنه فى أغسطس 1973، عاد التعاون بين المخابرات الألمانية والمصرية بعد انقطاع طال.. وتلقى هذا التعاون الجديد ضربة عنيفة مع قيام حرب أكتوبر التى لم تعرف عنها ألمانيا شيئا.. ثم عاد هذا التعاون من جديد، وبمباركة أمريكية قبل توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
ودخلت ألمانيا بثقلها فى نهاية السبعينيات فى مجال تسليح وتدريب وبناء ترسانة الجيش المصرى.. ويقول الكاتب والصحفى الألمانى إيريك شميت اينبوم، إنه فى عام 1978 تلقت المخابرات المصرية دعما قويا غير مسبوق من المخابرات الألمانية شمل تقديم تكنولوجيا ألمانية، والتدريب على أجهزة المراقبة والاستماع.. واستمر هذا التعاون حتى فى عهد مبارك.
هل يمكن أن يستمر ذلك التعاون إلى ما بعد عهد مبارك؟
لا إجابة واضحة.. فخريطة التعاون بين الأجهزة الأمنية فى مصر، وغيرها من دول العالم، لا يمكن أن يتحدد شكلها ومسارها، إلا بعد أن تستعيد أجهزة الأمن المصرية توازنها كاملا أولا.